top of page
صورة الكاتبتمارة عماد

معالجو الطاقة في بغداد.. بين الاستشفاء والاستغلال



يشهد العراق، وخاصةً بغداد، انتشارًا ملحوظًا لمراكز "العلاج بالطاقة" التي تقدم خدمات متنوعة مثل "الريكي" و "العلاج بالكريستال"، مقابل أسعار باهظة في بعض الأحيان. هذا الانتشار يثير تساؤلاتٍ حول الفعالية العلمية لهذه الممارسات.

نستعرض في هذا المقال شهادات لنساء خضن تجربة "العلاج بالطاقة" في بغداد، كما نستطلع آراء الخبراء حول الحاجة إلى إطار قانوني ينظم هذا النوع من "العلاج" ويحمي المستهلكين من الاستغلال.


"لم أكن أتخيل يومًا أن أقف على مسامير حادة بحثًا عن الراحة النفسية!"، بهذه الكلمات بدأت بان نوري، 30 عامًا، حديثها عن تجربتها مع العلاج بالمسامير، وهي تقنية غير تقليدية تعتمد على الوقوف على لوحٍ مغطى بالمسامير لـ "تحرير الصدمات" و "التخلص من الطاقة السلبية"، بحسب ما يروج له بعض المعالجين.

تقول بان، وهي البنت الكبرى في عائلتها، إنها لطالما كانت شخصًا يحمل هموم الجميع ويكبت مشاعرها. "كنت أشعر بضغط نفسي هائل، وكأنني أحمل العالم على كتفي"، وتضيف "بحثت عن طرق مختلفة للتخلص من هذا العبء، إلى أن قرأت عن العلاج بالمسامير في إحدى الصفحات على موقع الفيس بوك".


خضعت بان لجلسة العلاج بالمسامير التي استمرت لمدة ساعتين من خلال الاستلقاء في أجواء هادئة في أحد مراكز العلاج بالطاقة في بغداد، مقابل 100 ألف دينار عراقي للجلسة الواحدة أي ما يقارب 70 دولار أمريكي. عن هذه التجربة تقول "أخبرتني المعالجة أن هذه التقنية تساعد على التفريغ النفسي والتخلص من الصدمات المكبوتة، ولا أنكر أنني شعرت بالخوف في البداية، لكنني قررت خوض التجربة".

وتضيف: "بعد الانتهاء من الجلسة، شعرت بنوع من الراحة والخفة، وكأنني تخلصت من بعض الحمل الذي كان يثقل كاهلي. لا أدري إن كان ذلك بسبب المسامير  والبكاء لبعض الوقت أم بسبب التركيز على التنفس والإسترخاء أثناء الجلسة والإستماع لموسيقى هادئة، لكنني أشعر بأنها كانت تجربة مفيدة"، مؤكدة أنها ستكرر هذه التجربة "كلما شعرت بالحاجة إلى التفريغ النفسي، وكلما حاصرتها الحياة بمشاكلها وأحزانها. 


"العلاج بالطاقة"..هل هو فعال أم مجرد وهم؟


يقول الدكتور أنور جبار، الأخصائي في الطب النفسي، "لا يوجد أي دليل علمي يثبت فعالية العلاج بالمسامير في علاج الصدمات النفسية أو التفريغ النفسي. قد يشعر البعض بنوع من الراحة بعد الوقوف على المسامير، لكن هذا الشعور قد يكون ناتجًا عن عوامل أخرى، مثل تأثير "البلاسيبو" (أي الإيحاء بالتحسن، أو العلاج بالوهم) أو التركيز على التنفس والاسترخاء أثناء الجلسة".

ويضيف "من المهم أن يدرك الناس أن هذه الطرق غير التقليدية لا تغني عن العلاج النفسي التقليدي بمختلف مدارسه، والتي تعتمد على أسس علمية سليمة. وفي حال وجود أي مشكلة نفسية، يجب التوجه إلى أخصائي صحة نفسية مؤهل للحصول على التشخيص والعلاج المناسبين".

نور عبد الكريم 22 عامًا، طالبة جامعية من محافظة بغداد، لم تكن تتوقع أن تجد نفسها تبحث عن علاج لأوجاعها العاطفية عبر شاشة الهاتف. ولكن بعد علاقة عاطفية فاشلة تركتها في حالة من اليأس والاكتئاب، بدأت إعلانات العلاج بالطاقة واللايف كوتش تظهر لها بكثرة على حسابها في انستغرام.


"كنت أشعر بالعجز التام،" تقول نور، "لم أكن أستطيع حتى النهوض من السرير، وبدأت أفكر في أسوأ السيناريوهات. وعندما رأيت هذه الإعلانات التي تعد بالشفاء والتحول وطاقة الانعكاس، شعرت بأنها طوق النجاة الذي كنت أبحث عنه."

قررت نور خوض التجربة، والتسجيل في كورس (التخلص من التعلق العاطفي) عبر تطبيق "الزوم"، والذي كانت تقدمه مدربة حياة (لايف كوتش) تزعم قدرتها على مساعدة الأشخاص على التخلص من الألم النفسي والضغط والحزن من خلال التحفيز وطاقة الجذب.

"كان الكورس مكلفًا بالنسبة لي، حوالي 200 ألف دينار عراقي (حوالي 140 دولار أمريكي)،" تعترف نور، "لكنني كنت مستعدة لدفع أي شيء لاستعادة حياتي."


تضمن الكورس خمس جلسات، ركزت على تقديم نصائح وتحفيز للتخلص من العلاقات السامة، وتقبل الذات، واستقبال الطاقة الإيجابية.

بعد الجلسات الخمس، تقول نور بابتسامة، "بدأت أستعيد ثقتي بنفسي، وأشعر بأنني أستطيع مواجهة العالم من جديد. لا أدري إن كان ذلك بسبب الطاقة الإيجابية التي استقبلتها أم ببساطة بسبب الدعم النفسي الذي تلقيته، لكن النتيجة كانت إيجابية بالنسبة لي." وتضيف "أعتقد أن هذه الجلسات ساعدتني على تخطي علاقة سامة، وفتحت لي الباب لاستقبال طاقة إيجابية من حولي".

من جهتها، لم تكن حوراء ياسين، 34 عامًا، تتخيل أن حادث سير مأساوي سيغير حياتها رأسًا على عقب. فبعد فقدان شقيقها المفاجئ، وجدت نفسها غارقة في الحزن واليأس، غير قادرة على استيعاب هذه الخسارة الفادحة. "شعرت وكأن حياتي توقفت،" تقول حوراء بصوت متهدج، "بينما كان الجميع من حولي يتقبلون فكرة الموت كقضاء وقدر، كنت أنا أعاني في صمت، غير قادرة على المضي قدمًا."

في خضم هذه المعاناة، لاح لها بصيص أمل حين نصحتها صديقة مقربة بتجربة "علاج الصدمات" أو ما يعرف بـ "التروما"، وبحسب مدربة العلاج، فإن التروما تنبع من الداخل، وأن الصدمات هي إنتاج من الشخص نفسه، وعليه معالجتها من خلال تمارين انعكاس الشعور، لاستبدال مشاعر الصدمة بمشاعر إيجابية.

"في البداية، كنت متشككة،" تعترف حوراء، "لكنني كنت يائسة ومستعدة لتجربة أي شيء قد يخفف عني هذا الألم".


انضمت حوراء إلى مجموعة من النساء اللولتي يشاركنها تجربة الفقدان، وبدأت رحلة العلاج التي استمرت لثمان جلسات، بتكلفة إجمالية بلغت 500 ألف دينار عراقي أي حوالي 400 دولار أمريكي. كانت الجلسات مكلفة. "لقد تعلمت كيف أتقبل فكرة الفقدان كجزء من رحلة الحياة، وكيف أستسلم للحزن وأعطيه حقه دون أن أغرق فيه."، تؤكد الفتاة.

واليوم، وبعد مرور أشهر على انتهاء الجلسات، أصبحت تشعر بأنها قد بدأت تتعافى، وتتقبل فكرة رحيل شقيقها.

"ما زلت أشعر بالحزن، لكنه لم يعد يسيطر على حياتي قد ساعدتني الجلسات على الخروج من حالة الحزن العميق التي كنت فيها، وجعلتني أدرك أنني لست وحدي في هذه المحنة، لكن لا أرغب بتجربتها مجددًا لشعوري أنه تم استغلالي ماديًا خلال جلسات كنت استطيع ان احصل عليها من خلال دردشات مع صديقات على سبيل المثال!".


"كورس التخطي" عندما يتحول البحث عن التعافي إلى فخ باهظ الثمن


في لحظة ضعف وانكسار عاطفي، وجدت نسرين جبار(اسم مستعار)، 25 عامًا، نفسها أسيرة ذكريات علاقة فاشلة، غير قادرة على التوقف عن التفكير في خطيبها السابق. وفي خضم بحثها اليائس عن مخرج، وقعت عيناها على إعلان على انستغرام لكورس يدعى "التخطي"، يعد بتجاوز آلام الفراق.

"كنت يائسة ومستعدة لتجربة أي شيء"، تقول نسرين، "قرأت تعليقات من أشخاص مروا بتجارب مشابهة، وشعرت بأن هذا الكورس هو ما أحتاجه."

دفعت نسرين مبلغًا ضخمًا، ٥٠٠ ألف دينار عراقي (حوالي ٤٠٠ دولار أمريكي)، مقابل ثلاث جلسات في مركز للعلاج بالطاقة. تصف نسرين الأجواء بأنها كانت "هادئة"، والمدربة "حنونة" و"تجيد احتواء الألم".

"كنت أفرغ كل ما في داخلي، وأستمع إلى الموسيقى، ثم تقوم المدربة ببعض التمارين التي يفترض أنها تساعد على استبدال الألم بطاقة حب الذات"، تروي نسرين.

لكن بعد مرور عدة أشهر، تنظر الشابة إلى تلك التجربة ببعض الندم. "أضحك على نفسي الآن، وأتساءل كيف دفعت كل هذا المال مقابل حضن وموسيقى من يوتيوب؟ أشعر بالخجل، كأنني لم أكن في وعيي حينها."


تستمر نسرين في تلقي إعلانات من المركز عن جلسات أخرى، مثل "السير على المسامير"، لكنها مصرة على عدم الوقوع في هذا الفخ مرة أخرى. وتؤكد "لقد أصبحت أكثر وعيًا الآن،كانت تلك مرحلة مستقطعة من حياتي، وتجربة تعلمت منها الكثير. لن أسمح لأحد باستغلال ضعفي مرة أخرى".

للتذكير ، فإنه من أشهر الطرق التي يتبعها المعالجون في بغداد: "الريكي"، وهو علاج ياباني الأصل، يعتمد على "ملامسة الكف" بحسب الخبراء فيه لنقل الطاقة من المعالج إلى المريض، بهدف تحقيق التوازن وتحفيز الشفاء الذاتي. أما "العلاج بالكريستال"، فيستعين فيه المعالج بالأحجار الكريمة لتوجيه الطاقة وإزالة ما يعرف بـ "انسدادات الطاقة" في مجال الطاقة الشخصية.  ولا يمكن إغفال "التأمل"، الذي يهدف إلى تهدئة العقل والوصول إلى حالة من الاسترخاء العميق، مما يساعد على خفض التوتر وتحسين الصحة العامة، بحسب ما يُروج له "المعالجون". أما "الوخز بالإبر"، فهي تقنية صينية قديمة، تعتمد على إدخال إبر رفيعة في نقاط محددة في الجسم، بهدف تنشيط الطاقة وتحقيق التوازن.

في محاولة منا للحصول على إجابات واضحة حول هذه التقنيات في بغداد ، تواصلنا مع خمسة "معالجين بالطاقة" في بغداد، سواء عن طريق الاتصال الهاتفي أو زيارة مراكزهم، للحصول على تصريح منهم حول هذه الممارسات. إلا أننا لم نتلق أي تجاوب، وكان الرد دائما إما "الانشغال" أو ""رفض التصريح. وهذا التجاهل يشير إلى غياب الرقابة على هذا القطاع، مما يفتح الباب أمام الاستغلال والتلاعب بمشاعر وحاجات الناس.


ضرورة تقنين نشاط "العلاج بالطاقة"


تقدم بعض مراكز "العلاج بالطاقة" كذلك مخيمات في منتجعات فندقية فخمة، تستهدف النساء بشكل خاص، وتقدم برامج علاجية مكثفة مقابل أسعار باهظة تصل إلى مئات الدولارات.

تقدم هذه المخيمات مجموعة واسعة من الخدمات، منها جلسات "اليوغا" و"العلاج بالصوت" و"التأملات الجماعية" و"جلسات التشافي"، وذلك ضمن أجواء من الرفاهية والاستجمام. ويزعم القائمون على هذه المخيمات أنها تساعد على "التعافي من الصدمات النفسية" و "إزالة الخوف" و"التخلص من المعتقدات السلبية".


تستهدف هذه المخيمات النساء بشكل خاص، مما يجعلهن عرضة لاستغلال حاجتهن إلى الدعم النفسي.

تحذر الدكتورة (ذكرى جميل)، أستاذة علم الاجتماع في جامعة المستنصرية، من استغلال اليأس الاجتماعي في الأحياء الراقية من بغداد، حيث تنتشر مراكز العلاج بالطاقة التي تستهدف النساء بشكل خاص، وتطالب بمبالغ باهظة مقابل خدمات قد تكون غير ضرورية.

وترى أن "هذه الممارسات تستغل حاجة الناس إلى الأمل والراحة النفسية لتحقيق مكاسب مادية غير مشروعة، محذرةً من مخاطر الوقوع في فخ الوعود الكاذبة بـالشفاء السريع والطاقة الإيجابية"، كما تُشدّد "على أهمية نشر الوعي بين النساء من قبل الجهات الرسمية والمنظمات المعنية بحقوق المرأة، حول هذه الممارسات، وتشجيعهن على التوجه إلى الجهات المُختصة للحصول على الدعم والعلاج المناسبين، كما تطالب بتفعيل دور الجهات الرسمية في مراقبة هذه المراكز ومحاسبة المستغلين".

من جهتها، تسلط المحامية (نغم الساعدي)، المختصة في قضايا حقوق المرأة، الضوء على"الفراغ القانوني الذي يحيط بممارسة العلاج بالطاقة في العراق، مشيرةً إلى غياب تشريعات تنظم هذا النشاط وتحدد معايير ممارسته، مما يفتح الباب أمام الاستغلال والممارسات المشبوهة.


وتشير الساعدي إلى أن هذا الفراغ القانوني يهدد صحة وسلامة المواطنين، حيث يمكن لأي شخص أن يدعي أنه معالج بالطاقة دون أن يكون لديه المؤهلات أو الخبرات اللازمة. كما أنه يصعب من مهمة محاسبة المعالجين غير المؤهلين، أو أولئك الذين يتورطون في ممارسات مشبوهة تستغل حاجة الناس إلى الشفاء والراحة النفسية.

وتطالب الساعدي بضرورة "سن تشريعات خاصة تنظم الممارسات الحديثة لبعض المهن  وتُحدّد الشروط والمعايير لمزاولتها، وتُلزم المعالجين بالحصول على تراخيص رسمية من الجهات المختصة".


النقص الحاد في الأطباء النفسيين في العراق


 في الوقت الذي تنتشر فيه مراكز "العلاج بالطاقة" بأشكالها المختلفة في بغداد، تشير إحصائيات رسمية إلى نقص حاد في عدد الأطباء النفسيين في العراق، وقلة في الوعي العام لدى المجتمع تجاه التوجه إلى الطبيب النفسي، مما يطرح تساؤلات حول مدى تأثير هذا النقص على لجوء البعض إلى "العلاج الروحي" كبديل للعلاج النفسي التقليدي.

أكدت نقابة الأطباء العراقيين عدم ارتباطها بمسألة العلاج بالطاقة، مؤكدةً أن هذا النوع من الممارسات يقع خارج نطاق اختصاصها الرقابي. وأشار مصدر مسؤول في النقابة رفض الكشف عن اسمه أن "نقابة الأطباء تعنى بمتابعة ومراقبة العمل الطبي الذي يمارسه الأطباء الحاصلون على تراخيص رسمية من وزارة الصحة، بينما لا تندرج ممارسات "العلاج بالطاقة" ضمن هذا الإطار".

بحسب التقرير الإحصائي السنوي لوزارة الصحة العراقية، يبلغ معدل الأطباء النفسيين لكل 10000 شخص حوالي 60 طبيبًا في محافظة بغداد، بينما لا يتجاوز هذا المعدل طبيبًا واحدًا لكل 10000 من السكان في محافظة ميسان. وفي محافظات الأنبار وديالى وصلاح الدين التي توجد فيها نزاعات مسلحة ومشاكل أمنية، لا يزال المُعدل منخفضًا بواقع طبيبين نفسيين فقط لكل 10000 شخص.




هذا النقص الكبير في عدد الأطباء النفسيين، خاصة في بعض المحافظات، يؤدي إلى صعوبة الحصول على خدمات الصحة النفسية، ويزيد من أعباء الانتظار لإيجاد موعد مع طبيب نفساني، كما أن قلة الوعي بأهمية الصحة النفسية لدى شرائح كبيرة من المجتمع قد تدفع العديد من الناس إلى البحث عن بدائل أخرى، مثل العلاج بالطاقة الذي يروج له على أنه حل سريع وسحري لجميع المشاكل.

لذا، من الضروري معالجة مشكلة نقص الأطباء النفسيين في العراق، وتوفير خدمات الصحة النفسية للجميع، بما يضمن حصول المرضى على الرعاية المناسبة، ويقلل من لجوئهم إلى طرق علاجية غير مثبتة علميًا.


لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)

١٢١ مشاهدة٠ تعليق

留言


bottom of page