" أعلم أني مثالي عندما أطمح إلى الحصول على شغل بعد تخرجي، فيما أرى زملائي من الدفعات السابقة يُشاركون في الإعتصامات من أجل الحق في العمل ليحصلوا على وعود كاذبة أو يكون مصيرهم السحل أو الضرب من قبل عناصر أمن."، يقول مرتضى محمد، (22 عاما) طالب على وشك التخرج.
يعيش مرتضى بمزيج من الحماس والخوف، أيامه الأخيرة في عالم الجامعة والدراسة. يدرس في كلية التربية/ جامعة بغداد، ويحلم بأن يجد وظيفة في مدرسة حكومية، تمنحه تدريجيا، الاستحقاق الوظيفي، دون أن يضطر للقبول بالعمل في مدارس أهلية براتب لا يتعدى ال400 الف دينار/ 240 دولار.
" بعض الخريجين الذين أعرفهم، عملوا كمحاضرين مجانيين لسنوات في المدارس الحكومية على أمل التعيين، والحكومة استغلت حاجتهم للتثبيت، دون أن تُعينهم في الأخير. ماذا يعني أن تنفق من جيبك الخاص خلال كامل الموسم الدراسي وتنتظر وما من مجيب؟ هذا يجعلني أقلق وأفكّر: بعد أن أستلم شهادة التخرج، هل سأعلقها على الحائط قرب صورة التخرج؟" يتساءل مرتضى.
حول نصب "إنقاذ الثقافة العراقية" للنحات محمد غني حكمت، يتدافع الطلبة المتخرجون ليتبركوا به، ويلتقطوا صور تخرجهم تحت ظله. إحدى المتخرجات حديثا، قالت أن هذا النصب صار بمثابة " بشرى خير لجميع الخريجين"، فأحيانا يجب حجز المكان لشدة الإقبال عليه. "صار هذا المكان موقع الخريجين المقدس، يحاولون التمسك بقوة به لحماية أحلامهم من السقوط" تقول سارة، متخرجة منذ بضعة أشهر.
تجاوزت نسبة البطالة بين صفوف الشباب للأعمار بين 18 الى 30 سنة، بحسب وزارة التخطيط العراقية، الـ 20 بالمائة، بالموازاة مع عدد الخريجين لكل عام والذي يتجاوز حاجز الـ١٨٠ ألف بحسب وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية. "إيجاد وظيفة في هذه الظروف شبيه بالبحث عن ابرة وسط كومة من القش" ؛ يقول مرتضى.
لا وظائف حكومية جديدة مبرمجة في قانون الموازنة
"إما أن تدرس الطب، أو لا فائدة من دراستك". جملة رددها كثيراً والدا أحمد سليم (٢٤ عاما) قبل دخوله الكلية، ويسترجعها اليوم فيما يتخرج هذه السنة من كلية الطب العام/ جامعة النهرين. كان يتمنى دراسة الفنون التشكيلية لكنهما رفضا، مؤكدين أن الطب وحده من يستحق الدراسة. يقول بحديثه، انه يتفهم طلب والحاح والديه على دراسة شيء لم يرغب فيه مطلقا، لأن الطب بفروعه في العراق، هو التخصص الوحيد المشمول بالتعيين المركزي، ويقول " يعتبر زملائي في الكليات الأخرى أنني محظوظ وأنني سوف أحصل على راتب بمجرد تخرجي"، مضيفا " في السابق، كانت جميع التخصصات تنقلك الى تعيين مركزي، فمثلا المدرس، يشتغل بعد تخرجه في القرى والأرياف بتوجيه من الدولة ثم ينتقل لمكان قريب من سكنه. أما حاليا، فقد تغيرت الأمور، وأصبحت الغاية من الدراسة هي الحصول على "الشهادة" وحسب.
أكدت عضو اللجنة المالية النيابية، إخلاص الدليمي أن مشروع قانون الموازنة الاتحادية لعام ٢٠٢٣ والذي يضم سنتي ٢٠٢٤ و٢٠٢٥ سيخلو من الدرجات الوظيفية باستثناء درجات الحذف والاستبدال والتي ستتوفر بعد إحالة عدد كبير من الموظفين الى التقاعد.
من جهته، يقول أحمد سليم بحسرة، "في حفلات التخرج، يجلب الكثير من الطلبة، معدات وأزياء تنكرية تُبشر بنظرتهم لمستقبلهم بعد التخرج، يرقصون يمسكون شهادات تخرجهم ويضحكون بسخرية لأن الدولة لم تمنحهم أي أمل على مدار سنوات. ليس هنالك أي مكان يستقبلهم".
بلغ الإنفاق على التعليم، حسب أحد العاملين في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق والذي رفض ذكر اسمه، 4.6% من ميزانية الدولة في 2021. ووفقا لموقع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، فإن إجمالي التمويل الذي قدمته الولايات المتحدة لدعم التعليم في البلد بلغ أكثر من 1.3 مليار دولار أمريكي منذ عام 2003 حتى عام 2021. فيما بلغ عدد الجامعات الحكومية 37 جامعة موزعة على مختلف محافظات البلاد، مقابل ٥٨ جامعة أهلية.
تحدي الدخول إلى الجامعات الحكومية الجيدة
يعتبر ارتياد جامعة حكومية جيدة أمرا معقدا في العراق، بسبب صعوبة تحصيل معدل جيّد يُؤهّل لارتيادها. في هذا الصدد، يقول إبراهيم أحمد، الذي تخرج حديثاً من جامعة الفراهيدي/ قسم هندسة تقنية الاتصالات، " لا يمكن تخيل عدد الطلبة الذين أعادوا دراسة السادس الاعدادي فقط من أجل تحسين معدلاتهم. في نفس الوقت، هنالك معدلات تعبر درجة المئة، بسبب شمولهم بذوي الشهداء أو بعض الامتيازات، فينال بعضهم فرص غيرهم، الأمر الذي يضطر الآخرين للتوجه لجامعات أهلية من أجل دراسة تخصصهم". ابراهيم ورغم معدله الجيّد لم يستطع الدخول إلى جامعة حكومية. "مالذي يمكنني أن أتوقعه، وأنا حتى قبل أن أتخرج، تم أخذ مقعدي الدراسي بسبب قوانين مظلمة؟ لماذا لا يُمكنّ الحصول على معدل ٩٥% من دراسة الطب في جامعة حكومية، فيضطر البعض إلى اختيار دراسة الصيدلة في جامعة أهلية؟ ثم إن تكاليف الجامعات الأهلية ليست في متناول الجميع".
بالتوازي مع صعوبة الحصول على مقاعد في الجامعات الحكومية، يواجه الطلبة تحديات أخرى عند اختيارهم لتخصصات غير كلاسيكية. آية أسعد، التي تخرّجت هذا العام من قسم التصميم/ كلية الفنون الجميلة واجهت رفض عائلتها لاختيارها هذا التخصص الدراسي. " كانوا يقولون لي: "انت لا تفعلين شيئا سوى مسك الأقلام والأوراق، ستُضيّعين أربع سنوات من عمرك في العدم، غيرك على الأقل سيقول أنه خريج جامعة جيدة"، تتذكّر بحسرة، مضيفة "كانوا يريدون أن أُصبح مهندسة أو طبيبة مثل باقي أفراد العائلة".
لكن آية ظلت متمسكة بشغفهاـ، حيث تقول " أحاول إخبار أسرتي وأقاربي دائما أنني على الأقل أدرس اختصاصا أحبه ومؤمنة به ولا أنتظر فعليًا وظيفة من الحكومة لأنها لا تعترف بالفنون وليس لدينا مؤسسات عامة تُعنى بالتصميم، كالأزياء أو الديكور، أو الأثاث وغيره".
تعتبر آية أنه من واجب الدولة الاستماع لحاجيات الشباب بما أنهم النواة التي تبني البلاد. وفي غياب ذلك، يضطر بعض خريجي كليات الفنون، لدراسة الماجستير والدكتوراه من أجل محاولة نيل مقعد كتدريسيين، وحتى هذه الدرجات، فإنه يتم الحصول عليها عادة عبر الوساطات. من جهتها، فإنها تفكر بالإلتحاق بالقطاع الخاص، ولكنه مازال " ناشئا في العراق والكثير من أصحابه يستغلون حاجة الخريجين الحديثين للعمل، لمنحهم رواتب ضئيلة للغاية بدون أي ضمان اجتماعي أو صحي، كما أن فرصة تسريحهم من العمل سهلة، وإعادة بحثهم عن فرص جديدة سيتطلب أشهرا أو سنوات، لذا يفضل الكثيرون التعيين الحكومي رغم ضعف رواتبه".
طلب التعيين، أمنية أبدية
في عام 2019، شارك شجاع عباس (33 عامًا) في تظاهرات نظّمها الخريجون الذين لم يجدوا وظائف تناسب تخصّصاتهم العلمية، وطرقوا أبواب الدولة للمطالبة بفرص عمل. وتحت ضغط التظاهرات، منحت حكومة رئيس الوزراء السابق، عادل عبد المهدي خمسة آلاف فرصة عمل للمتظاهرين في وزارة الدفاع. ومع ذلك، يوضح الخريج الذي ما زال بدون عمل، أنّ تلك الفرص سُرقت منهم، نتيجة الفساد والمحسوبية والواسطات. "كان من المقرر أن تكون هذه الفرص لخريجي الجامعات، وليس لوزارة الدفاع. وعلى الرغم من حرارة الجو، يواصل المئات منهم التظاهر بانتظام. جميعنا تقدمنا بطلب التعيين مع جميع المستمسكات المطلوبة، وكان عددنا كبيرًا ومن مختلف المحافظات. في المقابل، أعطونا وقتها ورقة صغيرة عليها اسم المتقدم ورقما، لا نعرف سرّها، وليس عليها أي تاريخ." يقول شجاع. جرّب هذا الأخير العمل في القطاع الخاص، ولكن تم استبداله سريعًا بموظفين عرب واجانب، ليواجه كغيره من الخريجين مصيراً قاتماً.
في المقابل، أعلن قبل شهرين، المتحدث باسم وزارة التخطيط العراقية عبد الزهرة الهنداوي، أن الحكومة لم يعد بإمكانها التوظيف أكثر في مؤسسات الدولة نظرا لوجود أكثر من ٤ ملايين موظف. وأشار إلى أن التوجه الحالي هو نحو تنمية القطاع الخاص، لكنه يتطلب الكثير من الإجراءات والتشريعات والأنظمة والقوانين التي تنظم عمله.
من جهته، يرى الأكاديمي سلوان رشيد، وهو تدريسي في إحدى الجامعات أن وزارة التعليم العالي تفتقر إلى التخطيط، بما أنها لا تنفك تستحدث المزيد من الكليات الإنسانية والأهلية دون إعتبار لحاجيات سوق العمل". كما يعتبر أن "الكليات الأهلية تعتمد على الدور الثاني، الثالث، وحتى الرابع لضمان نجاح طلابها، مما أدّى إلى تخرّج أعداد ضخمة من الطلاب دون أي استحقاق حقيقي لنيل شهادتهم، وهذا له تأثير على جودة التعليم وعلى مستقبل هؤلاء الطلبة".
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)
Comments