بينما تسجل محاكم بغداد ارتفاعاً مقلقاً في حالات الطلاق، تشير الدراسات الاجتماعية إلى اتجاه متزايد لدى نساء العاصمة بغداد نحو العزوبية. هذا التحول يثير التساؤلات حول الأسباب الكامنة وراء عزوف الكثيرات عن خوض تجربة الزواج أو الارتباط، وتكوين أسرة. فهل يعكس هذا التوجه رغبة متنامية لدى المرأة البغدادية في الاستقلالية وتحقيق الذات بعيداً عن قيود الزواج التقليدي، أم أنه مجرد ردة فعل على تحديات اقتصادية واجتماعية معقدة، أو ربما خيبة أمل من تجارب سلبية سابقـة؟
"أشعر بالاكتفاء التام بحياتي الحالية، ولا أرغب في الزواج في الوقت الراهن." بهذه الكلمات بدأت زهراء نوري (26 عامًا)، الموظفة في إحدى شركات الاتصالات في العاصمة بغداد، حديثها عن سبب رفضها عروض الزواج المتكررة.
وتضيف وهي الفتاة الوحيدة بين أربعة أشقاء ذكور: "أرى معاناة العديد من صديقاتي وقريباتي المتزوجات من ثقل المسؤولية وضغوط الحياة الزوجية، وتمنياتهن بالحصول على بعض الوقت لهن. أنا الآن أتمتع بحرية كاملة في حياتي، أسافر مع عائلتي وأُمارس هواياتي دون إلتزامات. أشعر بأنني مدللة في بيت أهلي، ولا أعتقد أنني مستعدة للتخلي عن هذه الحياة."
وتعلق زهراء على نظرتها للزواج في هذا الجيل قائلة: "للأسف، الرجال اليوم ليسوا كآبائنا فيما يخص التزامهم وحبهم للمرأة. أخشى أن أفقد حريتي واستقلاليّتي في علاقة زوجية لا تعطيني قيمتي." وتختتم زهراء حديثها مؤكدةً أنها، ورغم إلحاح عائلتها وتقديم العديد من الأشخاص ذوي السمعة الطيبة لخطبتها، إلا أنها متمسكة بقرارها في الوقت الحالي، مفضلةً التركيز على حياتها المهنية وتحقيق طموحاتها الشخصية.
من جهتها، عبّرت يمامة حسين (30 عامًا)، أستاذة جامعية في إحدى الكليات الأهلية ببغداد، عن خيبة أملها من الإرتباط بعد فشل تجربة خطوبتها، حيث تقول:"لم أكن أتخيل أن البحث عن شريك حياة مناسب سيصبح بهذه الصعوبة، خضت تجربة الخطوبة، وفي كل مرة كان يبدو في البداية أن هناك توافقًا فكريًا واجتماعيًا مع الخطيب، لكن عند الانتقال إلى مرحلة التخطيط للمستقبل، كنت أُصطدم بواقع مادي مختلف تمامًا، فقد كان الشخصان اللذان ارتبطت بهما يعانيان من ضائقة مالية، ولا يستطيعان توفير سكن مستقل أو حتى مستوى معيشة مناسب."
وتوضح يمامة: " أعيش حاليا في منزل عائلتي، وأتمتع بمستوى معيشي محترم، ورغم أنني أعمل وأتقاضى راتباً، إلا أنه لا يكفي لتغطية جميع احتياجاتي الشخصية. لذلك، أبحث عن شريك حياة يكون قادرا على توفير الاستقرار المادي لي، لا أن يضيف أعباءً جديدة لحياتي"، مضيفة " بعد هذه الخيبات، أصبحت أُفضل العزوبية. على الأقل، أنا مرتاحة في بيت أهلي، ولا أرغب في خوض تجربة قد تؤدي إلى التنازل عن مستوى معيشي اعتدت عليه."
نورا محمد (اسم مستعار)، شابة ثلاثينية، تتمسك هي أيضا بالعزوبية رافضة فكرة الزواج التقليدي، حيث تقول "الحرية هي أسلوب حياتي، ولا أريد أن أصبح أسيرة لقرارات شخص آخر"، مضيفة "أعيش حياةً ممتعة بمعاييري الخاصة، ولست مستعدة للتنازل عنها من أجل إرضاء رجل قد يحاول التحكم بي وتغيير أسلوب حياتي، خاصة وأنني أُلاحظ أن غالبية الرجال في مجتمعنا لا يزالون يفضلون المرأة الخاضعة، التي تطيع أوامرهم دون نقاش، وهذا ما أرفضه تمامًا."
وتشير إلى تجاربها السابقة قائلةً: "خضت علاقات حب عديدة، لكنها جميعها انتهت بسبب رغبة الشريك في تغيير شخصيتي وإجباري على التخلي عن عاداتي كالتدخين أو ارتداء ملابس معينة، أو حتى الابتعاد عن بعض صديقاتي. أنا أؤمن بأن الحب الحقيقي يقبل الشخص كما هو دون شروط أو قيود."
وتصر الشابة الثلاثينية على التمسك بقرارها بعدم الزواج قائلةً: "أفضل العزوبية على خوض تجربة زوجية قد تقيدني وتجبرني على عيش حياة لا أُريدها. حتى لو تزوجت يومًا ما، فأنا لا أُخطط لإنجاب أطفال، أُريد أن أكرس حياتي لتحقيق أحلامي وطموحاتي الشخصية، فأنا امرأة مستقلة أعرف ما أريد، وسأواصل حياتي وفقًا لقناعاتي الخاصة دون الالتفات لضغوط المجتمع وتقاليده."
التحولات الاجتماعية والرغبة في الاستقلالية: أهم الأسباب
يرجع الدكتور، محمد عبد، الأستاذ في علم الاجتماع بجامعة بغداد، ظاهرة تنامي العزوبية بين نساء بغداد إلى مجموعة من العوامل المترابطة، حيث يقول: "نشهد اليوم تحولات اجتماعية عميقة أثّرت على نظرة الجيل الجديد للزواج ودوره في الحياة، فقد أصبحت المرأة أكثر استقلالية، نتيجة ارتفاع مستواها التعليمي ومشاركتها بشكل أكبر في سوق العمل، مما يعزز رغبتها في اتخاذ قراراتها باستقلالية."
ويضيف أنه لا يمكن إغفال التحديات الاقتصادية التي تواجه الشباب في بغداد، حيث تشكل صعوبة توفير مسكن مستقل وتكاليف الزواج الباهظة عائقًا أمام الكثيرين. كما أن ارتفاع معدلات الطلاق وانتشار ظاهرة العنف الأسري يؤديان إلى تكوين صورة سلبية عن الزواج لدى البعض، ويعزز الخوف من خوض هذه التجربة.
ويشير الدكتور محمد عبد إلى عامل آخر مهم، وهو تغير قيم الزواج ومفاهيمه في المجتمع البغدادي، حيث " لم تعد مفاهيم الزواج التقليدية تناسب تطلعات الجيل الجديد من النساء، اللواتي يبحثن عن شريك حياة يتقاسم معهن الأدوار والمسؤوليات، ويحترم استقلاليتهن ورغباتهن." ويلفت كذلك إلى أن هذه الظاهرة تتطلب دراسة معمقة من قبل المتخصصين في علم الاجتماع لفهم أبعادها وتداعياتها على المجتمع البغدادي. كما أنها تسلط الضوء "على الحاجة إلى توعية الشباب بقضايا الزواج والأسرة، وتشجيع الحوار البناء بين الجنسين لبناء علاقات زوجية سليمة قائمة على المودة والاحترام المتبادل."
العزوبية كخيار أيضا من قبل الشبّان
"أُريد الزواج، ولكن..." بهذه الكلمات المفعمة بالتناقض، عبّر نمير محمد (33 عامًا)، المهندس المعماري من بغداد، عن موقفه المُعقّد من الزواج. "أدرك أن الزواج قرار مصيري وصعب في وقتنا الحاضر، خاصةً مع تغير الدور التقليدي للمرأة في الأسرة. وأرى الكثير من النساء اليوم اللواتي يُردن فرض سيطرتهن على كل تفاصيل الحياة الزوجية، وهذا يثير قلقي ويجعلني أُعيد التفكير مليًا قبل الإقدام على هذه الخطوة."
يعيش نمير صراعا داخليا، حيث يريد الزواج وتكوين أسرة، " لكن في ظل هذه الظروف، أشعر أن العزوبية قد تكون أرحم، رغم أنها ليست الخيار الأمثل، فأنا أخشى أن أصبح أسيرًا لقرارات شريكة حياتي، وأفقد حريتي في التصرف وإدارة شؤوني الخاصة."
ويشير الشاب إلى صعوبة إيجاد الشريكة المناسبة قائلًا: "أين يمكن أن ألتقي بفتاة تشاركني أحلامي وتطلعاتي للمستقبل؟ أصبحت عملية التعارف معقدة في زمننا هذا، والخيارات محدودة جدًا." ويختم حديثه بقوله "أتمنى أن تعيد النساء من الجيل الجديد النظر في أسلوبهن في التعامل مع مفهوم الزواج والشراكة، وأن يدركن أن الزواج السعيد يعتمد على التفاهم والمشاركة والتنازلات المتبادلة، لا على فرض السيطرة والرأي الواحد."
من جهته، يعبر كرار رافع (29 عامًا)، طالب دراسات العليا في جامعة بغداد، عن خيبة أمله بعد فشل تجربتين عاطفيتين. ويقول "أبحث عن شريكة حياة تشاركني أحلامي"، مضيفا "خضت علاقتي حب جادتين خلال السنوات الماضية، وبذلت قصارى جهدي لجعلهما ناجحتين. وكنت واضحًا وصريحًا فيما يخص رغبتي في تطوير العلاقة والانتقال إلى مرحلة الارتباط الرسمي، لكن للأسف، كلا التجربتين انتهتا بالفشل."
ويتابع باستغراب: "المدهش في الأمر أن محاولتي الجادة للانتقال بالعلاقة إلى مستوى أكثر جدية كانت هي السبب الرئيسي في إنهاء العلاقة! فبمجرد التحدث عن الزواج، قرّرت الفتاتان الابتعاد، متذرعتين بحجج واهية كالحاجة إلى إكمال الدراسة، أو الرغبة في عيش حياة حرة دون التزامات".
ويتسائل كرار: "ألا تريد الفتيات الارتباط وتكوين أسرة؟ هل أصبح الزواج مخيفًا لهذه الدرجة؟ أنا لا أبحث عن سيطرة أو تقييد لحرية شريكة حياتي، بل أبحث عن شريكة تشاركني أحلام المستقبل وتسعى لبناء عائلة سعيدة." وينهي حديثه متأملا أن يجد فتاة تُّقدر صدق مشاعره وجديته في الارتباط، " فتاة تؤمن بأن الحب الحقيقي هو أساس الزواج الناجح."
ضرورة إعداد الشباب للزواج
تعتبر هبة محمد، الناشطة في منظمات المجتمع المدني والمدافعة عن حقوق الإنسان، أن "الزواج مدرسة حقيقية تحتاج إلى توعية وإعداد مسبق. وما نلاحظه من ارتفاع مقلق في معدلات الطلاق وخيبة الأمل من تجربة الزواج لدى الكثير من الشباب، يعود جزئيًا إلى عدم وجود توعية كافية بالتحديات والمسؤوليات الحقيقية للحياة الزوجية." لذلك تُصرّ على ضرورة وجود برامج توعية تقدمها منظمات المجتمع المدني. في هذا الصدد، تقول "سنعمل خلال العام المقبل على تنظيم ورش عمل ودورات تدريبية تساعد الشباب على فهم مفهوم الزواج بناءً على أسس سليمة وسنستهدف طلاب الجامعات بشكل رئيسي، حيث سنركز على أهمية الحوار والتواصل وحل الخلافات بشكل بناء، كما سنناقش قضايا مهمة كالتوزيع العادل للأدوار والمسؤوليات في الأسرة، وإدارة المال بشكل فعال."
وتؤكد هبة على أهمية التعاون بين مختلف الجهات لتحقيق أهداف التوعية. "نعمل على التنسيق مع المؤسسات الحكومية والمراكز الأكاديمية للعمل على توسيع نطاق برامج التوعية لتصل إلى أكبر عدد ممكن من الشباب، لكن للأسف الموضوع لا يلقى ترحيبا"، وتضيف " لكننا ما زلنا نحاول لأننا نؤمن بأن الاستثمار في توعية الشباب حول قضايا الزواج والأسرة هو استثمار في مستقبل مجتمعنا، وسيساهم في بناء أسر سليمة ومستقرة، قادرة على تربية أجيال واعية ومسؤولة ، كما نشجع وسائل الإعلام على تخصيص مساحة أكبر لتناول قضايا الزواج والأسرة بشكل موضوعي وعلمي."
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)
Comentarios