يُعدّ الخط العربي واحدًا من أبرز الفنون والآثار العربية التي تمزج بين الجمال والمعنى، حيث يحمل في طياته روح الحضارة العربية الإسلامية ويعبر عن الهوية الثقافية لهذه الأمة. هذا الفن الأصيل لم يكن مجرد وسيلة للتعبير الكتابي، بل هو لوحة تنطق بالإبداع وتجسد القيم الجمالية التي تميز التراث العربي.
في العراق، حيث تمتد جذور هذا الفن في الثقافة المحلية، تلعب الشابات العراقيات اليوم دورًا محوريًا في إحياء هذا الإرث الحضاري، من خلال شغفهن به وابتكاراتهن لتطويره، إذ لا يكتفين بالمحافظة على هذا التراث، بل يسعين لإعادة تقديمه بروح عصرية تمزج بين عبق الماضي وحداثة الحاضر.
من بين هؤلاء الشابات، تبرز الخطاطة آلاء سامي كنموذج يُعبّر عن هذه الجهود. بدأت قصتها مع الخط العربي "بالصدفة"، حين ذهبت يومًا إلى قسم النشاطات الفنية في جامعة بغداد لتعلم الرسم. هناك، اقترح عليها الأساتذة أن تبدأ بتعلم الخط العربي، خاصة وأنه يشبه الزخارف الإسلامية التي تنجذب إليها. هكذا انطلقت رحلة آلاء مع هذا الفن، والتي تحولت من هواية عابرة إلى شغف يهدف لإحياء تراث عريق ونقله إلى الأجيال القادمة.
تراث الخط العربي بأيدي شابات عراقيات
شهدت منطقة بلاد الرافدين ولادة أولى أشكال الكتابة في تاريخ البشرية، وهي الكتابة المسمارية، التي ابتكرها السومريون منذ أكثر من خمسة آلاف عام، وهي تعد واحدة من أقدم أنماط الكتابة التي استخدمها الإنسان للتعبير عن أفكاره وحفظ تاريخه. وقد تطورت عبر العصور لتصل إلى الخط العربي الذي ظهر في شبه الجزيرة العربية في القرون الأولى للإسلام، ليصبح أحد أبرز الفنون التي تعتمد على الزخرفة والجمال في تشكيل الحروف.
في الثقافة العراقية، يحتفظ الخط العربي برمزية خاصة، فهو ليس مجرد وسيلة للتواصل، بل يعد تجسيدًا للهوية العربية والإسلامية، ورمزًا للعلم والمعرفة، حيث كان يُستخدم في كتابة القرآن الكريم والكتب العلمية والأدبية التي أثرت في العديد من المجالات عبر العصور، كما أن الخط العربي في العراق يعكس علاقة وثيقة بين الإبداع والتراث ويعبّر عن القوة الثقافية لهذا البلد الذي يحمل في طياته إرثًا حضاريًا عميقًا.
في العصر الحديث، ومع تطور الفنون وتزايد الإهتمام بالتراث، نجد جيلًا شابًا، خاصة من النساء العراقيات، يسعى جاهدًا للمحافظة على هذا الفن العريق، ومن بين هؤلاء الشابات، تبرز الخطاطة آلاء سامي. لم تقتصر هذه الأخيرة على تعلم الخط العربي، بل أصبحت اليوم مدربة، تقوم بتعليمه. تقول آلاء: "ما دفعني لإعطاء ورشات خاصة هو وجود عدد كبير من المُحبين لهذا الفن. ولكي نُفرّق بين من يُحب الخط العربي ومن يريد حقا أن يغوص فيه، نقوم بإعطاء أساسيات هذا الفن. ونرى بعد ذلك من هو قادر على استيعابها والتعمق فيها."
من خلال ورشاتها، تسعى آلاء إلى نقل حب هذا الفن إلى الأجيال القادمة. تقول زهراء، إحدى المتدربات،"كان لورشة تعلم الخط دور كبير في خلق شغف جديد بالنسبة لي، حيث أصبحت أدرك أهمية هذا الفن وتعلمت كيف أكون صبورة في ممارسته." أما زينب، متدربة أخرى، فقد فسّرت "كيف أن تعلم الخط العربي يضفي على الكلمات المكتوبة جمالية كبيرة، فكتابة الحروف بشكل متناسق وفق قواعد الخط يزيد من رونقها"، مضيفة أن هذه التجربة ساعدتها على اكتساب "المعرفة وأضفت الهدوء والسكينة على شخصيتها الإنفعالية".
من جهتها، تؤكد فرح، إحدى المتدربات، أن انضمامها للورشة، كان بسبب رغبتها في تطوير مهاراتها كهاوية،قائلة: "قضيت وقتًا طويلاً في التعلم الذاتي، لكنني أردت الخروج من هذا الإطار والتعلم بطريقة مهنية". وتضيف: "كان للورشة تأثير كبير في حياتي، فقد طورت مفهومي لهذا الفن وساهمت في ازدياد مخزوني المعرفي، كما كان للمحاضرات أثر عميق في روحي، حيث شعرت في الأخير بالفخر بتحقيق إنجازات في هذا المجال."
لطالما كان الخط العربي أحد أبرز الفنون التي تتطلب دقة واهتمامًا بالتفاصيل، وهو ما يتناسب تمامًا مع طبيعة المرأة التي غالبًا ما تكون متقنة في هذه الجوانب. وقد أظهرت العديد من النساء المبدعات، سواء في العراق أو في أنحاء العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط، قدرة كبيرة على الحفاظ على تقاليد هذا الفن الأصيل وتطويره.
في هذا الصدد، تُذكّر آلاء بأسماء فنانات تميزن في هذا المجال، مثل الخطاطة الإيرانية مريم نوروزي، التي فازت بجوائز عالمية كثيرة ولها تأثير قوي على الساحة الفنية، ولكن "يبقى عدد النساء قليل في هذا المجال"، تقول بأسف. لذلك تحاول آلاء، من خلال ورشاتها التعليمية، أن تخلق بيئة تتيح للنساء الشابات فرصا للتعلم، كي تُعزّز دورهن في الحفاظ على هذا التراث الفني العريق.
التحديات والفرص
يواجه الخط العربي تحديات، في ظل هيمنة التكنولوجيا الحديثة، حيث تُبيّن آلاء أن وجود خطوط طباعية أثّر بشكل كبير على تطور هذا الفن، كما أن الاتجاه العام نحو استخدام التقنية، قلل اهتمام الناس بالخط العربي كفن يدوي يتطلب مهارة وتدريبًا. لكن هناك فرص كبيرة لدمجه في مجالات متعددة أخرى بعيدًا عن اللوحات، مما سيتيح له الاستمرار والنمو."
في هذا الإطار أيضا، تعتبر زهراء، إحدى المتدربات في ورش آلاء، أن " من بين التحديات، تسلل اللغات الأخرى إلى لهجاتنا، والتركيز الأكبر على تعلم اللغات الأجنبية، مما يقلل الاهتمام باللغة العربية وبالتالي بالخط العربي".
يمكن أن تكون هذه التحديات دعوة لإدخال الخط العربي بشكل أوسع في المناهج التعليمية، مما يسهم في تعزيز التراث الثقافي ويحفز الأجيال الجديدة على تعلمه وفهمه بشكل أفضل. "يمكننا إدخال الخط في التصاميم المعمارية والفنية للمجتمعات، مما يعزز النظرة الحديثة له، تقول آلاء، مضيفة " لا ينبغي أن يُعتبر مجرد فن تقليدي على ورق، بل يمكن أن يكون جزءًا من التصميم العمراني في الأماكن العامة مثل المتاحف والمجمعات."
هكذا تبقى للخط العربي مكانة خاصة كأحد الفنون التي تمزج بين الجمال والتعبير الثقافي العميق، ليُمثّل فرصة للأجيال الجديدة لاستكشاف هويتهم الثقافية وتعميق ارتباطهم بالتراث.
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)
Comments