حنين هادي / معرض لغة النخيل
تحاول العديد من الفنانات العراقيات تحدي الأنماط الاجتماعية التقليدية من خلال الفن، سواء عبر اختيار موضوعات جريئة أو اعتماد أساليب جديدة. بالإضافة إلى ذلك، يساهمن في تعزيز الوعي الثقافي، خاصة عندما يستمدن أفكارهن من التراث العراقي الغني ولكن بطريقة معاصرة. هذا لا يساعد فقط على حفظ الهوية الثقافية، بل يعيد تقديمها للأجيال الجديدة بطرق أكثر تحررًا وتجددًا. هكذا تحاول الفنانات العراقيات الشابات اليوم إبراز الوجه الثقافي والحضاري لبلادهن.
في معرضها الأخير، وهو أول معرض شخصي لها في بغداد، عكست الفنانة العراقية الشابة، حنين هادي، شغفها العميق بالنخيل، الذي يعد رمزًا أصيلًا من رموز أرض الرافدين. من خلال أعمالها، تروي للعالم حكاية نخيل العراق، وتحمله كوسام فخر وهوية وطنية في معارضها العالمية.
تمثل حنين هادي مثالًا للفنانة التي تسعى من خلال فنها إلى إعادة اكتشاف الهوية العراقية وتقديمها للعالم بطريقة مبتكرة. في معرضها بمدينة غلاسكو، الذي حمل عنوان "أرض السواد"، استلهمت لوحاتها من تاريخ العراق الطويل مع النخيل، الذي كان يومًا ما يغطي البلاد خلال العصور الإسلامية، حيث كانت الملايين من أشجار النخيل رمزًا للحضارة والثروة. تقول هادي إنها اختارت هذا العنوان لأنه يعكس القوة والجذور العميقة للحضارة العراقية.
اعمال حنين هادي
وتسعى حنين دائمًا إلى التركيز على مفهوم الأرض والوقت، حيث اكتشفت قوة تجسيد الطبيعة من خلال لوحاتها التي تعتمد على تفاصيل النخيل العراقي. قامت باستخدام سعف النخيل المجفف الذي جمعته بنفسها خلال زيارتها الأخيرة للعراق، مما أضفى على لوحاتها حسًا ملموسًا بالواقع العراقي. ولم تكتفِ بذلك، بل قدمت أيضًا التمر العراقي كضيافة لزوار معرضها، في إشارة واضحة إلى الكرم العراقي التقليدي الذي يعد جزءًا لا يتجزأ من هوية البلد. تقول حنين: "أردت أن أشارك هذا الجانب من ثقافتي مع زواري، لأن الكرم هو جزء مهم مما أحمله عن وطني". تتميز أعمال هادي بالحميمية والشفافية، متأثرة بثقافتها العراقية العميقة وتكيفها مع الثقافتين الشرقية والغربية، وهي تحرص دائمًا على أن تعكس في أعمالها التوازن بين هذه الهويات المختلفة.
أما الفنانة تبارك الأطرقجي، فتقول: "أفكر كثيرًا في كيف سترانا الأجيال القادمة، وأشعر أن الفن في هذه الفترة يحتاج إلى أعمال أكثر ثورية". تعكس كلماتها رؤية ثاقبة لأهمية الفن كأداة للتغيير الاجتماعي والثقافي، وهي رؤية تتشاركها مع العديد من الفنانات العراقيات المعاصرات. ففي العصور القديمة، شكلت النقوش الحجرية والتماثيل والزخارف تعبيرًا عن الحياة الثقافية والدينية الغنية. ومع مرور الزمن، تحول الفن إلى أداة للتعبير عن التغيرات الاجتماعية والسياسية. وقد تركت فنانات مثل ليلى العطار بصمة قوية على المشهد الفني، حيث عكست في أعمالها الجمال الحقيقي للعراق وسط الصراعات، وأسهمت عفيفة لعيبي مثلا في دمج التراث العراقي بروح الحداثة، مقدمةً للعالم صورة جديدة عن وطنها. وهذا ما يبين أن الفن العراقي كان وما زال وسيلة للتواصل الإبداعي وإعادة بناء الهوية الثقافية للعراق.
في هذا الصدد، يقول الناقد الفني البريطاني، جون بورجر: "الفن ليس مرآة للحقيقة بل مطرقة لتشكيلها"، وهو ما يعكس الدور الحيوي الذي تلعبه فنانات العراق اليوم. فالفن بالنسبة لهن ليس مجرد تعبير عن الماضي، بل أداة فعّالة لتشكيل الهوية والمستقبل.
من التعبير الشخصي إلى الهوية الوطنية
تبارك الاطرقچي/ معرض عشتار للشباب
تشرح الفنانة تبارك الأطرقجي، التي نشأت في كنف عائلة محبة للفن والتحقت بكلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد، أنها تسعى من خلال أعمالها إلى التعبير عن هويتها الوطنية عبر نقل مشاهد حياتها اليومية إلى لوحاتها. وتقول، "في أعمالي أحاول أن أعكس هويتي الوطنية من خلال ما أراه في حياتي اليومية؛ سواء كان نخيلًا شامخًا، أسلاكًا كهربائية متشابكة، أو إشارات مرورية في الشوارع". وتضيف بأن الهوية الوطنية للعراق أصبحت موضوعًا معقدًا لا يسهل التعبير عنه في العصر الحديث"، معتبرة أن العناصر الفنية التقليدية التي طالما ارتبطت بالفن العراقي، مثل الشناشيل والخيول، وإن كانت جميلة، لم تعد تعكس واقع الحياة اليومية للعراقيين.
في هذا الصدد، توضح الفنانة "أشعر بالحاجة إلى إيجاد عناصر جديدة تعبر بصدق عن الهوية العراقية، لأنني لا أرى الشناشيل أو الخيول في الشوارع العراقية اليوم، بل أرى مشاهد أخرى تختلف تمامًا عن تلك الصور التقليدية". وبهذا تسعى الأطرقچي إلى استخدام الفن كأداة للتفاعل مع الواقع الحالي وليس مجرد استحضار الماضي. في أحد أعمالها الشهيرة بعنوان "مگرود يبحث"، الذي رسمته عام 2019، اخترعت شخصية اسمها "مگرود"، والتي تمثل الفرد العراقي الذي يبحث عن هويته في شارع حيفا. في هذا العمل، رسمت تبارك أقواسًا ونجومًا سداسية وثقوبًا خلفتها الحرب على الجدران، مع مزجها بعناصر جمال إضافية مثل الأقواس المزخرفة. ووجدت في تلك التناقضات شيئًا مثيرًا للتأمل، حيث ترى ثقوبًا صنعتها الحرب وأخرى أضافها الإنسان كجزء من الجمال المعماري.
اعمال تبارك الاطرقچي
في هذا السياق، تعتبر تبارك أن الهوية الوطنية الحقيقية للعراق تتمثل في تلك المشاهد اليومية التي يمر بها العراقيون. وتقول: "أنا لا أود أن تكون هذه الصورة المشوهة من أسلاك كهربائية وأعلام دينية هي هوية العراق، لكنها جزء من الحقيقة التي لا يمكننا تجاهلها". لذلك تحاول تحقيق توازن بين هذا الواقع المتغير والبحث عن العناصر التي تعبر عن الهوية العراقية الأصيلة.
"الفن يعكس روح الأمة وثقافتها وتاريخها ويجسد التحديات والآمال التي تواجهها"، هكذا تصف الفنانة التشكيلية ليلى الصافي الفن ودوره في التعبير عن الهوية الوطنية. ليلى الصافي حاصلة على بكالوريوس فنون تشكيلية من أكاديمية الفنون الجميلة في جامعة بغداد وماجستير في النحت، وتؤمن بشدة أن الفن يمكن أن يكون أداة قوية لتعزيز الهوية، خاصة في العراق حيث تمتزج الحضارات العريقة مع التعقيدات المعاصرة. وتقول: "يمكن للفنانين أن يساهموا في الحفاظ على هذه الهوية وإعادة صياغتها بطريقة تناسب الحاضر والمستقبل."
من خلال أعمالها، تحاول الصافي دمج الرموز التراثية العراقية مع العناصر الحديثة، سواء كان ذلك عبر الألوان، الأشكال، أو المواضيع. وتضيف: "أحيانًا أستعين بالرموز التي نجدها في الحضارات السومرية والبابلية وأدمجها مع تعابير معاصرة تلامس واقع المرأة العراقية اليوم." تؤكد الصافي أن الفن بالنسبة لها ليس فقط تعبيرًا فرديًا بل هو أيضًا انعكاس جماعي لما يعيشه العراقيون. بهذه الطريقة، يسهم الفن في إعادة تشكيل الهوية الوطنية بطريقة تجسد الماضي وتستشرف المستقبل، ليكون الفن وسيلة للتعبير عن التحديات والتطلعات في الوقت ذاته.
كسر القوالب النمطية من قبل الفنانات العراقيات وتقديمه بصورة جديدة
من خلال أعمال كل من الأطرقجي والصافي وهادي، يظهر الفن النسوي العراقي كمحرك للتغيير وإعادة تشكيل الهوية الوطنية، حيث تسعى الفنانات إلى كسر القوالب النمطية السائدة وتقديم العراق كبلد غني بالتاريخ والثقافة والحياة اليومية المتنوعة.
تقول الفنانة تبارك الأطرقجي، "من أكبر التحديات التي واجهتها كفنانة عراقية شابة هو أنني يجب أن أقدم صورة إيجابية وجميلة عن وطني، لكنني لا أركز على الجانب الجمالي فقط، فبالنسبة لي، الفن هو أداة تعبير عن الواقع، وليس مجرد وسيلة لتزيينه". لقد تأثرت الأطرقجي، مثل الكثير من أبناء جيلها، بالصراعات والحروب التي مرت بها العراق، مما جعل هذه التجارب تنعكس على أعمالها الفنية. وقد تناولت في لوحاتها العديد من القضايا الاجتماعية الملحة، مثل عمالة الأطفال والصدمات النفسية التي يتعرضون لها، بالإضافة إلى التلوث البصري وغياب الجمال في الشوارع.
تبارك الاطرقچي/ مگاريد والتلوث البصري
في الفترة بين 2018 و 2020، ركزت الأطرقجي على هذه القضايا في أعمالها الفنية، حيث سلطت الضوء على مشاكل اجتماعية مختلفة، مثل موضوع التلوث البصري. وفي عام 2019، رسمت مجموعة من اللوحات التي تناولت مشكلة "التلوث البصري"، خاصة الأسلاك الكهربائية العشوائية التي تتشابك في الشوارع. "شارك معي الكثير من الذين تعرضوا للحوادث بسبب الأسلاك الكهربائية، وأرسلوا لي صورًا للمناظر المشوهة التي تملأ شوارعهم". هذه اللوحات فتحت نقاشات حول الأثر النفسي الذي تتركه هذه المناظر على الفرد والمجتمع، وأثرت بشكل مباشر في المتابعين الذين يجدون أنفسهم منغمسين في موضوعات اللوحات.
تناولت الأطرقجي أيضًا قضايا الصحة النفسية في أعمالها، وسلطت الضوء على العلاقات بين الأفراد وكيف نؤثر على بعضنا البعض نفسيًا، حيث تؤمن بأن الفن يمكن أن يكون وسيلة لإيصال رسائل قوية، وتقول: "في أعمالي، يجد الكثير من الناس أنفسهم في شخصيات اللوحة، ويخبرونني بأنهم يشعرون أن العمل يعبر عنهم". وعندما عرضت أعمالها في بغداد، لاحظت أن اللوحات دائمًا ما تفتح باب الحوار والنقاش حول المشاكل التي تتناولها. "ربما أحد هذه الأحاديث ستوصلنا إلى حلول، وإن لم نصل إلى حل، فإن مجرد التحدث عن المشكلة هو خطوة مهمة"، تبين الفنانة.
إلى جانب مشاركتها في العديد من المعارض الفنية، تبرز لوحة "مگرود" للفنانة تبارك الأطرقجي كواحدة من أبرز أعمالها التي ساهمت في تعزيز الحوار حول الهوية العراقية المعاصرة. هذه اللوحة شاركت في أحد معارض مركز "تركيب"، وهو مركز إبداعي لإنتاج وعرض الفن المعاصر مخصص لفنانين شباب عراقيين، مما أتاح للفنانة الفرصة لعرض أعمالها وسط بيئة داعمة للفن الحديث والتجريبي.
أول عرض لهذه اللوحة كان في معرض Baghdad Walk، الذي حمل فكرة فريدة من نوعها وهي جولة سياحية في شوارع بغداد، حيث يتجول المشاركون في المدينة وكأنهم يكتشفون معالمها، بينما يشاهدون في الوقت نفسه أعمالًا فنية معاصرة في تلك الشوارع. "مگرود"، الشخصية التي أبدعتها الأطرقچي، كانت عنصرًا محوريًا في هذا المعرض، حيث جسدت من خلاله مشاعر الانتماء والبحث عن الهوية التي يعيشها العراقيون يوميًا في ظل التحديات التي تواجههم. لاحقًا، تم عرض لوحة "مگرود" في شوارع برلين، مما أضفى على العمل بعدًا دوليًا جديدًا. بهذا، أصبح مگرود رمزًا للتنقل بين الثقافات والجغرافيات، حاملاً معه تفاصيل الحياة العراقية إلى العالم.
لوحة مگرود في شوارع برلين
هذا العرض الدولي أتاح للجمهور الأوروبي رؤية العراق من منظور جديد، حيث تمثل "مگرود" جسرًا بين الشوارع العراقية وشوارع برلين، وبين التراث العراقي الغني والتعبيرات الفنية المعاصرة. لقد كانت هذه الخطوة جزءًا من رحلة الأطرقچي في توسيع نطاق فنها وتجاوز حدود المكان، مما يعزز رؤيتها في التعبير عن الهوية العراقية من خلال الفن التجريبي.
الأطرقچي تؤمن بدور الفن النسوي في كسر الصورة النمطية للعراق والعراقيات. فهي ترى أن الفنانات العراقيات دائمًا مبدعات ومتجددات في أفكارهن وتساهمن في تقديم رؤى جديدة ومتنوعة عن العراق، وكسر الصورة النمطية التي عادة ما تُلصق بالبلد وثقافته. في هذا السياق، يشير الفنان والناقد الفني، كريم سعدون إلى أنه "بالرغم من التحديات الكبيرة التي تواجه الفن في العراق، هناك حرية متزايدة في الإنتاج الفني، مما يتيح للفنانين التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم بطريقة فريدة". يفسّر سعدون، الذي أثرت تجربته في السويد على مسيرته الفنية، كيف أن الانفتاح الثقافي على أوروبا أتاح له التفاعل مع أشكال فنية جديدة وتوسيع آفاقه. ويقول أن الاحتكاك بمختلف التيارات الفنية العالمية أثر عليه بطرق لم يكن يتخيلها في العراق.
يبدو أن هذا الانفتاح والحرية في التعبير يُعدان عنصرين حاسمين في نمو الفن العراقي المعاصر، خاصة لدى الفنانين الذين يسعون لكسر القيود التقليدية وإعادة تقديم العراق للعالم من خلال رؤى جديدة ومتنوعة. فالفن، سواء كان في الداخل أو الخارج، يعزز من قدرة الفنانين على استكشاف هوية بلدهم بشكل أعمق وأكثر تعقيدًا، مما يسمح لهم بالتفاعل مع تجاربهم الخاصة وتجارب الآخرين بطريقة تعكس ثراء الحضارة العراقية وروحها المتجددة.
الفن كأداة لتحرر النساء
هناك دور للفنانات العراقيات في إحداث التغيير الاجتماعي والثقافي، خاصة في مجتمع محافظ مثل العراق حيث تواجه النساء تحديات مضاعفة. الصافي تؤكد على هذا الدور بقولها: "الفنانات العراقيات يعبرن عن قضايا المرأة مثل الحرية الشخصية، حقوق المرأة، العنف الأسري، والمساواة في المجتمع عبر أعمالهن الفنية. يحاولن توجيه الانتباه إلى هذه القضايا بطريقة بصرية مؤثرة تعيد صياغة الحوار المجتمعي حول دور المرأة." الفن هنا لا يعمل فقط كأداة للتعبير الشخصي، بل أيضًا كأداة للتغيير الجماعي. فالفنانات لا يقدمن فقط تجاربهن الفردية، بل يخلقن مساحة للمشاهدين للتفكير وإعادة النظر في الأفكار السائدة حول المرأة.
تقول الأطرقجي "القيود الاجتماعية تذوب مع الوقت. أرى الكثير من الفنانات، أمهات ولديهن عمل ومسؤوليات، وبالرغم من كل الصعوبات يبدعن ويخلقن فنًا رائعًا. هذه الطاقة العظيمة تستحق التأمل."
لا يقتصر دور الفنانات العراقيات اليوم على المساهمة في المشهد الفني، بل يشاركن في بناء مستقبل أكثر انفتاحًا، مع تحقيق توازن دقيق بين الحفاظ على الهوية الثقافية ومواكبة الحداثة. الخطط واضحة، والحاضر ينبض بالجمال، مما يمهد لمستقبل فني واعد في العراق.
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)
Comments